فصل: تفسير الآية رقم (180)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏180‏]‏

‏{‏وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏180‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم‏}‏ يعني ولا يحسبن الذين يبخلون البخل خيراً لهم ‏{‏بل هو‏}‏ يعني البخل ‏{‏شر لهم‏}‏ والبخل هو إمساك المقتنيات عما لا يستحق حبسها عنه والبخيل هو الذي يكثر منه البخل والآية دالة على ذم البخل عن عبدالله بن عمر قال‏:‏ خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «إياكم والشح فإنما هلك من كان قبلكم بالشح» أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالفجور أخرجه أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خصلتان لا يجتمعان في مؤمن‏:‏ البخل وسوء الخلق» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب واختلف العلماء فيمن نزلت هذه الآية فقال عبدالله بن مسعود وأبو هريرة وابن عباس في رواية أبي صالح عنه والشعبي ومجاهد نزلت هذه الآية في الذين يبخلون أن يؤدوا زكاة أموالهم ووجه هذا القول أن أكثر العلماء ذهبوا إلى أن البخل عبارة عن منع الواجب وأن من منع التطوع لا يكون بخيلاً ويدل عليه الوعيد الشديد في سياق الآية‏.‏ وهو قوله تعالى سيطوقون ما بخلوا به وهذا لا يكون إلاّ في ترك الواجب لا في التطوع وقال ابن عباس في رواية عطية عنه وابن جريج عن مجاهد أنها نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته وهذا القول هو اختيار الزجاج ووجه هذا القول أن البخل عبارة عن منع الخير والنفع ويدخل فيه العلم كما يقال بخل فلان بعلمه وصحح الطبري القول الأول واختياره وقوله ‏{‏سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة‏}‏ أي سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق فإن حملنا معنى الآية على منع الزكاة والبخل بها فقد قال ابن مسعود وابن عباس يجعل ما منعه من الزكاة حية تطوق في عنقه يوم القيامة تنهشه من فرقه إلى قدمه ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من آتاه الله مالاً فلم يود زكاته مثل له يوم القيام شجاع أقوع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم أخذ بلهزمتيه يعني شدقيه ثم يقول‏:‏ أنا مالك أنا كنزك ثم تلا ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم» أخرجه البخاري قوله زبيبتان قيل هما النكتتان السودان فوق عيني الحية وقيل هما نقطتان يكتنفان فاها وقيل هما زبيبتان في شدقيها وقد جاء في الحديث تفسير لهزمتيه بأنهما شدقاه وقيل إنهما مضغتان في أصل الحنك وقيل هما منحنى اللحيين أسفل من الأذنين وكله متقارب‏.‏ ‏(‏ق‏)‏ عن أبي ذر قال‏:‏ انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة فلما رآني قال‏:‏

«هم الأخسرون ورب الكعبة قال‏:‏ فجئت حتى جلست فلم أتقار أن قمت فقلت يا رسول الله فداك أبي وأمي من هم‏؟‏ قال هم الأكثرون أموالاً إلاّ من قال هكذا وهكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقيل ما هم ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلاّ جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلما نفذت أخراها عادت عليه أولادها حتى يقضي بين الناس» لفظ مسلم وفرقه البخاري، بمعناه في موضعين‏.‏ وقيل في معنى الآية أنه يجعل في أعناقهم أطواق من النار وقيل يكلفون يوم القيامة أن يأتوا بما بخلوا به من أموالهم في الدنيا وإن حملنا تفسير البخل بالعلم وكتمانه فقد قال ابن عباس في قوله سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة أي يحملون وزره وإثمه فيكون على طريق التمثيل كما يقال قلدتك هذا الأمر وجعلته في عنقك وقيل يجعل في رقابهم طوق من نار ويدل عليه ما روي عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من سئل علماً يعلمه فكتمه ألجم بلجام من نار» أخرجه الترمذي وفي رواية أبي داود «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة» قيل في معنى الحديث إنهم لما سألوا عن العلم فكتموه ولم ينطقوا به بألسنتهم ولم يخرجوه من أفواههم عوضوا عن ذلك بلجام من نار في أفواههم عقوبة لهم والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولله ميراث السموات والأرض‏}‏ يعني أنه سبحانه وتعالى الباقي الدائم بعد فناء خلقه وزوال أملاكهم فيموتون وتبقى أملاكهم فيرثها سبحانه والمقصود من الآية أنه يبطل ملك جميع المالكين ويبقى الملك لله تعالى وقيل في معنى الآية وله ما فيهما مما يتوارثه أهلهما من مال وغير ذلك ذلك فما لهؤلاء البخلاء يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيله ‏{‏والله بما تعملون خبير‏}‏ قرئ يعملون الياء على الغيبة على طريقة الالتفات وهي أبلغ في الوعيد والمعنى والله بما يعملون يعني البخلاء من منعهم الحقوق خبير فيجازيهم عليهم وقرئ بالتاء على خطاب الحاضرين

تفسير الآيات رقم ‏[‏181- 182‏]‏

‏{‏لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ‏(‏181‏)‏ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏182‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء‏}‏ قال الحسن وقتادة لما نزلت هذه الآية من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً قالت اليهود إن الله فقير يستقرض منا ونحن أغنياء وذكر الحسن أن القائل هذه المقالة هو حيي بن أخطب وقال عكرمة والسدي ومقاتل ومحمد بن إسحاق كتب النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله قرضاً حسناً فدخل أبو بكر ذات يوم بيت مدارسهم فوجد ناساً كثيراً قد اجتمعوا على فنحاص بن عازوراء وكان من علمائهم ومعه حبر آخر يقال له أسبيع فقال أبو بكر لفنحاص‏:‏ اتق الله وأسلم فوالله إنك لتعلم أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاءكم بالحق من عند الله تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة فآمن وصدق وأقرض الله قرضاً حسناً يدخلك الجنة ويضاعف لك الثواب‏.‏ فقال فنحاص‏:‏ يا أبا بكر تزعم أن ربنا يستقرض أموالنا وما يستقرض إلاّ الفقير من الغنى فإن كان ما تقول حقاً فإن الله إذاً فقير ونحن أغنياء فغضب أبو بكر وضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينكم لضربت عنقك يا عدو الله فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر ما حملك على ما صنعت فقال يا رسول الله إن هذا عدو الله قال قولاً عظيماً زعم أن الله فقير وأنهم أغنياء فغضبت لله وضربت وجهه فجحد ذلك فنحاص فأنزل الله تصديقاً لأبي بكر وتكذيباً لفنحاص ورداً عليهم‏:‏ ‏{‏لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء‏}‏ وهذه المقالة وإن كانت قد صدرت من واحد من اليهود لكنهم يرضون بمقالته هذه فنسبت إلى جميعهم ولا يخلوا أن يكونوا قالوا هذه المقالة عن اعتقاد لذلك القول أو قالوها استهزاء وأيهما كان فهذه المقالة عظيمة القبح لا تصدر عن عاقل وإنما صدرت عن كافر متمرد في كفره وضلاله ‏{‏سنكتب ما قالوا‏}‏ يعني قولهم إن الله فقير ونحن أغنياء لأن ذلك كذب وافتراء والمعنى سنحفظ عليهم ما قالوا وقيل‏:‏ سنثبت ذلك القول في صحائف أعمالهم التي تكتبها الحفظة عليهم حتى يوافوا بها يوم القيامة فهو وعيد وتهديد لهم ‏{‏وقتلهم الأنبياء بغير حق‏}‏ قيل معناه سنكتب ما قال هؤلاء اليهود ونكتب ما فعله أسلافهم فنجازي كلا الفريقين بما هو أهله وإنما نسب قتل الأنبياء إلى اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما فعله أسلافهم وأوائلهم لأنهم رضوا بفعلهم فنسب إليهم‏.‏

وقيل في معنى الآية سنكتب على هؤلاء ما قالوا بأنفسهم ونكتب عليهم أيضاً رضاهم بقتل آبائهم الأنبياء والفائدة في ضم قتلهم الأنبياء إلى ما وصفوا الله تعالى بالفقر الإعلام بذلك أنهما أخوان في العظم وإن هذا القول منهم ليس بأول ما ارتكبوه من العظائم وأنهم أصلاء في الكفر والجهل والضلال ولهم في ذلك سوابق، وأن من قتل الأنبياء لا يبعد منه الإجتراء على مثل هذا القول العظيم الفحش والقبح ‏{‏ونقول‏}‏ يعني لهؤلاء الذين قالوا هذه المقالة ‏{‏ذوقوا عذاب الحريق‏}‏ أي ننتقم منهم بأن نقول لهم يوم القيامة ذوقوا عذاب الحريق كما أذقتم المسلمين الغصص في الدنيا ‏{‏ذلك‏}‏ أي ذلك العذاب المحرق جزاء فعلكم حيث وصفتم الله بالفقر وأقدمتم على قتل الأنبياء ‏{‏بما قدمت أيديكم‏}‏ إنما ذكر الأيدي على سبيل المجاز لأن الفاعل هو الإنسان لا اليد إلاّ أن اليد لما كانت آلة الفعل حسن إسناد الفعل إليها ولأن أكثر الأعمال يكون باليد فجعل كل عمل كالواقع بالأيدي على سبيل التغليب ‏{‏وأن الله ليس بظلام للعبيد‏}‏ فيعذب بغير ذنب بل هو سبحانه وتعالى عادل ومن العدل أن يعاقب المسيء ويثبت المحسن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏183- 185‏]‏

‏{‏الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏183‏)‏ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ‏(‏184‏)‏ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ‏(‏185‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الذين قالوا إن الله عهد إلينا‏}‏ قال الكلبي نزلت في كعب بن الأشرف ومالك بن صيفي ووهب بن يهوذا وزيد بن تابوت وفنحاص بن عازوراء وحيي بن أخطب من اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد تزعم أن الله بعثك إلينا رسولاً وأنزل عليك كتاباً وإن الله عهد في التوراة أن لا نؤمن لرسول يزعم أنه جاء من عند الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار فإن جئتنا به صدقناك فأنزل الله تعالى ‏{‏الذين قالوا‏}‏ يعني قد سمع الله قول الذين ‏{‏إن الله عهد إلينا‏}‏ يعني أمرنا وأوصاناً في كتبه ‏{‏أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار‏}‏ يعني فيكون ذلك دليلاً على صدقه‏.‏ وذكر الواحدي عن السدي أنه قال إن الله تعالى أمر بني إسرائيل في التوراة من جاءكم يزعم أنه رسول الله فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار‏.‏ حتى يأتيكم المسيح ومحمد فإذا أتياكم فآمنوا بهما فإنهما يأتيان بغير قربان‏.‏ زاد غير الواحدي عنه قال‏:‏ وكانت هذه العادة باقية فيهم إلى مبعث المسيح عليه السلام ثم ارتفعت وزالت وقيل إن ادعاء هذا الشرط كذب على التوراة وهو من كذب اليهود وتحريفهم ويدل على ذلك أن المقصود في الدلالة على صدق النبي هو ظهور المعجزة الخارقة للعادة فأي معجزة أتى بها النبي قبلت منه وكانت دليلاً على صدقه‏.‏ وقد أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالمعجزات الباهرات الدالة على صدقه فوجب على كافة الخلق اتباعه وتصديقه والقربان كل ما يتقرب به العبد إلى الله عز وجل من أعمال البر من نسك وصدقة وذبح وكل عمل صالح، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم الصوم جنة والصلاة قربان يعني انها مما يتقرب بها إلى الله عز وجل‏.‏ وكانت القرابين والغنائم لا تحل لبني إسرائيل وكانوا إذا قربوا قرباناً أو غنموا غنيمة جمعوا ذلك وجاءت نار بيضاء من السماء لا دخان لها ولها دوي حفيف فتأكل ذلك القربان أو الغنيمة وتحرقه فيكون ذلك دليلاً وعلامه على القبول وإذا لم يقبل بقي على حاله ولم تنزل نار‏.‏ وقال عطاء كانت بنو إسرائيل يذبحون لله فيأخذون الثروب وأطايب اللحم فيضعونها في وسط بيت والسقف مكشوف فيقوم نبيهم عليه السلام في البيت ويناجي ربه عز وجل وبنو إسرائيل خارجون حول البيت فتنزل نار بيضاء لها دوي وحفيف ولا دخان لها فتأكل ذلك القربان ثم قال الله عز وجل مجيباً عن هذه الشبهة التي ذكرها هؤلاء اليهود وإقامة للحجة عليهم ‏{‏قل‏}‏ يعني قل يا محمد لهؤلاء اليهود ‏{‏قد جاءكم‏}‏ يا معشر اليهود ‏{‏رسل من قبلي‏}‏ يعني مثل زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام ‏{‏بالبينات‏}‏ يعني بالدلات الواضحات الدالة على صدقهم ‏{‏وبالذي قلتم‏}‏ يعني ما طلبوا من القربان ‏{‏فلم قتلتموهم‏}‏ عني فلم قتلتم الأنبياء الذين أوتوا بنا طلبتمم منهم مثل زكريا ويحيى وسائر من قتلوا من الأنبياء وأراد بذلك فعل أسلافهم وإنما خاطب بذلك اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم كانوا راضين بفعل أسلافهم ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏ يعني في دعواكم ومعناه تكذيبهم إياك يا محمد مع علمهم بصدقك كقتل آبائهم الأنبياء مع إتيانهم بالقربان ثم قال تعالى مسلياً لنبيه صلى الله عليه وسلم ‏{‏فإن كذبوك‏}‏ يعني هؤلاء اليهود ‏{‏فقد كذب رسل من قبلك‏}‏ يعني مثل نوح وهود وصالح وإبراهيم وغيرهم من الرسل ‏{‏جاؤو بالبينات‏}‏ يعني بالدلالات الواضحات والمعجزات الباهرات ‏{‏والزبر‏}‏ أي الكتب واحدها زبور وكل كتاب فيه حكمة فهو زبور وأصله من الزبر وهو الزجر وسمي الكتاب الذي فيه الحكمة زبوراً لأنه يزبر عن الباطل ويدعو إلى الحق ‏{‏والكتاب المنير‏}‏ أي الواضح المضيء وإنما عطف الكتاب المنير على الزبر لشرفه وفضله وقيل أراد بالزبر الصحف وبالكتاب المنير التوراة والإنجيل‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏كل نفس ذائقة الموت‏}‏ يعني أن كل نفس مخلوقة ذائقة الموت ولا بد لها منه‏.‏ قيل لما نزل ‏{‏قل يتوفاكم ملك الموت‏}‏ يا رسول الله إنما نزلت في بني آدم فأين ذكر الموت للجن والأنعام والوحوش والطير‏؟‏ فنزلت هذه الآية وقيل لما خلق الله آدم عليه السلام اشتكت الأرض إلى ربها عز وجل مما أخذ منها فوعدها أن يرد فيها ما أخذ منها فما أحد يموت إلاّ ويدفن في التربة التي خلق منها‏.‏ فإن قلت الحور والولدان نفوس مخلوقة في الجنة لا تذوق الموت فما حكم لفظ كل في قوله كل نفس ذائقة الموت‏؟‏ قلت لفظة كل لا تقتضي الشمول والإحاطة بدليل قوله تعالى وأوتيت من كل شي ولم تؤت ملك سليمان فتكون الآية من العام المخصوص ويحتمل أن يكون المراد بهم المكلفين بدليل سياق الآية وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنما توفون أجوركم‏}‏ يعني توفون جزاء أعمالكم ‏{‏يوم القيامة‏}‏ إن خيراً فخير وإن كان شراً فشر ‏{‏فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز‏}‏ يعني فمن نجا وأبعد من النار وأدخل الجنة فقد ظفر بالنجاة ونجا من الخوف ‏{‏وما الحياة الدنيا إلاّ متاع الغرور‏}‏ يعني أن العيش في هذه الدار الفانية يغر الإنسان بما يمنيه من طول البقاء وسينقطع عن قريب فوصفت بأنها متاع الغرور لأنها تغر ببذل المحبوب‏.‏ وتخيل للإنسان أنه يدوم وليس بدائم والمتاع كل ما استمتع به الإنسان من مال وغيره وقيل المتاع كالفارس والقدر والقصعة ونحوها والغرور ما يغر الإنسان مما لا يدوم وقيل الغرور الباطل‏.‏

ومعنى الآية أن منفعة الإنسان بالدنيا كمنفعته بهذه الأشياء التي يستمتع بها ثم تزول عن قريب‏.‏ وقيل متاع متروك يوشك أن يضمحل ويزول فخذوا من هذا المتاع واعملوا فيه بطاعة الله ما استطعتم‏.‏ قال سعيد بن جبير هي متاع الغرور لمن لم يشتغل بطلب الآخرة فأما من اشتغل بطلب الآخرة فهي له متاع وبلاغ إلى ما هو منها ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل‏:‏ «أعدت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» واقرؤوا إن شئتم فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين‏.‏ زاد الترمذي‏:‏ «وفي الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها» واقرؤوا إن شئتم‏:‏ «وظل ممدود ولموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها» واقرؤوا إن شئتم‏:‏ ‏{‏فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلاّ متاع الغرور‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏186‏]‏

‏{‏لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ‏(‏186‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لتبلون‏}‏ اللام لام القسم تقديره والله لتبلون أي لتختبرن فتوقع عليكم المحن ليعلم المؤمن من غيره والاختبار طلب المعرفة ليعرف الجيد من الرديء وذلك في وصف الله محال لأن الله تعالى عالم بحقائق الأشياء كلها قبل أن يخلقها فعلى هذا يكون معنى الاختبار في وصف الله تعالى أنه يعامل العبد معاملة المختبر ‏{‏في أموالكم‏}‏ يعني بالابتلاء في الأموال بالنقصان منها وقيل بأداء ما فرض فيها من الحقوق ‏{‏وأنفسكم‏}‏ يعني بالمصائب والأمراض والقتل وفقد الأقارب والعشائر خوطب بهذه الآية المسلمون ليوطنوا أنفسهم على احتمال الأذى وما سيلقون من الشدائد والمصائب ليصبروا على ذلك حتى إذ لقوها لقوها وهم مستعدون بالصبر لها لا يرهقهم ما يرهق غيرهم ممن تصيبه الشدة بغتة فينكرها ويشمئز منها ‏{‏ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً‏}‏ قال عكرمة نزلت في أبي بكر الصديق وفنحاص بن عازوراء وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر إلى فنحاص سيد بني قينقاع يستمده وكتب إليه معه كتاباً وقال لأبي بكر‏:‏ لا تفتأتن علي بشيء حتى ترجع فجاء أبو بكر وهو متوشح بالسيف إلى فنحاص وأعطاه الكتاب فلما قرأه قال فنحاص قد احتاج ربك حتى نمده فهم أبو بكر أن يضربه بالسيف ثم ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تفتأتن علي بشيء حتى ترجع فنزلت الآية وقال الزهري نزلت هذه الآية في النبي صلى الله عليه وسلم وكعب بن الأشرف اليهودي وذلك أنه كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويسب المسلمين ويحرض المشركين على قتالهم في شعره‏.‏ ‏(‏ق‏)‏ عن جابر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله قال محمد بن مسلمة أتحب أن أقتله قال نعم قال ائذن لي فالأقل قال فأتاه فقال له وذكر ما بينهم وقال إن هذا الرجل قد أراد الصدقة وقد عنانا فلما سمعه قال وأيضاً والله لتملنه قال إنا قد ابتعناه ونكره الآن أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير أمره قال‏:‏ وقد أردت أن تسلفني سلفاً قال فما ترهنني أترهنني نساءكم‏؟‏ قال أنت أجمل العرب أنرهنك نساءنا قال له ترهنون أولادكم قال يسب ابن أحدكم فيقال رهن في وسقين من تمر ولكن نرهنك اللأمة يعني السلاح قال‏:‏ نعم‏.‏ وواعده أن يأتيه بالحارث وأبي عيسى بن جبر وعباد بن بشر قال فجاؤا فدعوه ليلاً إليهم قالت امرأته إني لأسمع صوتاً كأنه صوت دم قال إنما هو محمد ورضيعي أبو نائلة أن الكريم لو دعي إلى طعنة ليلاً لأجاب قال محمد‏:‏ إني إذا جاء فسوف أمد يدي إلى رأسه فإذا استمكنت منه فدونكم قال فلما نزل نزل وهو متوشح فقالوا‏:‏ نجد منك ريح الطيب قال‏:‏ نعم تحتي فلانة أعطر نساء العرب قال فتأذن لي أن أشم منه قال نعم فتناول فشم ثم قال‏:‏ أتأذن لي أن أعوذ فاستمكن من رأسه ثم قال دونكم فقتلوه»

زاد في رواية ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه وزاد أصحاب السير والمغازي فاختلف عليهم أسيافهم فلم تغن شيئاً قال محمد بن مسلمة فذكرت مغولاً في سيفي فأخذته وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا إلاّ وأوقدت عليه نار قال فوضعته في ثندوته ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته ووقع عدو الله وقد أصيب الحارث بن أوس بجرح في رأسه أصابه بعض أسيافنا فخرجنا وقد أبطأ علينا صاحبنا الحارث ونزفه الدم فوقفنا له ساعة حتى أتانا يتبع آثارنا فحملناه وجئنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر الليل وهو قائم يصلي فسلمنا عليه فخرج علينا فأخبرناه بقتل كعب بن الأشرف وجئنا برأسه إليه وتفل على جرح صاحبنا فرجعنا إلى أهلنا وأصبحنا وقد خافت اليهود وقعتنا بعدو الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ظفرتم به من رجال اليهود فاقتلوه وأنزل الله عز وجل في شأن الأشرف اليهودي ‏{‏لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم‏}‏ يعني اليهود والنصارى ‏{‏ومن الذين أشركوا‏}‏ يعني مشركي العرب ‏{‏أذى كثيراً‏}‏ يعني بالأذى قول اليهود إن الله فقير ونحن أغنياء وما أشبه ذلك من افترائهم وكذبهم على الله ورسوله وما كان كعب بن الأشرف يهجو به النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين فهذا هو الأذى الكثير ‏{‏وإن تصبروا وتتقوا‏}‏ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين يعني وإن تصبروا على أذاهم وتتقوا فيما أمركم به ونهاكم عنه لأن الصبر عبارة عن احتمال الأذى والمكروه والتقوى عبارة عن الاحتراز عما لا ينبغي ‏{‏فإن ذلك من عزم الأمور‏}‏ أي من صواب التدبير الذي لا شك أن الرشد فيه ولا ينبغي لعاقل تركه وأصله من قولك عزمت عليك أن تفعل كذا أي ألزمتك أن تفعله لا محالة ولا تتركه وقيل معناه فإن ذلك مما قد عزم عليكم فعله أي ألزمتم الأخذ به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏187- 188‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ‏(‏187‏)‏ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏188‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ أخذ الله‏}‏ أي واذكر يا محمد وقت إذ أخذ الله ‏{‏ميثاق الذين أوتوا الكتاب‏}‏ يعني اليهود والنصارى، والمراد منهم العلماء خاصة وقيل المراد بالذين أوتوا العلماء والأحبار من اليهود خاصة وأخذ الميثاق هو التوكيد والإلزام لبيان ما أوتوه من الكتاب وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لتبيننه للناس‏}‏ يعني لتبينن ما في الكتاب ولتظهرنه للناس حتى يعلموه وذلك أن الله أوجب على علماء التوراة والإنجيل أن يشرحوا للناس ما في هذين الكتابين من الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏ولا تكتمونه‏}‏ يعني ولا يخفون ذلك عن الناس ‏{‏فنبذوه‏}‏ يعني الكتاب وقيل الميثاق ‏{‏وراء ظهورهم‏}‏ أي فطرحوه وضيعوه وتركوا العمل به ‏{‏واشتروا به ثمناً قليلاً‏}‏ يعني المآكل والرشا التي كانوا يأخذونها من عوامهم وسفلتهم ‏{‏فبئس ما يشترون‏}‏ ذمهم الله تعالى على فعلهم ذلك‏.‏ واعلم أن ظاهر هذه الآية وإن كان مخصوصاً بعلماء أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى فلا يبعد أن يدخل فيه علماء أن ظاهر هذه الأمة الإسلامية لأنهم أهل كتاب وهو القرآن وهو أشرف الكتب‏.‏ قال قتادة‏:‏ هذا ميثاق أخذه الله تعالى على أهل العلم فمن علم شيئاً فليعلمه وإياكم وكتمان العلم فإنه هلكة وقال أيضاً مثل علم لا يقال له كمثل كنز لا ينفق منه ومثل حكمة لا تخرج كمثل صنم لا يأكل ولا يشرب وقال أيضاً طوبي لعالم ناطق ومستمع واعٍ هذا علم علماً فبذله وهذا سمع خيراً فقبله ووعاه عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من سئل علماً يعلمه فكتمه ألجم بلجام من نار» أخرجه الترمذي ولأبي داود «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة» وقال أبو هريرة لولا ما أخذ الله عز وجل على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء ثم تلا هذه الاية ‏{‏وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب‏}‏ الآية وقال الحسن بن عمارة أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فألفيته على بابه فقلت أريد أن تحدثني، فقال‏:‏ أما علمت أني قد تركت الحديث فقلت‏:‏ إما أن تحدثني وإما أن أحدثك قال‏:‏ حدثني فقلت‏:‏ حدثني الحكم بن عيينة عن يحيى بن الخزار قال سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول‏:‏ ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا قال‏:‏ فحدثني أربعين حديثاً‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لا تحسبن الذين يفرحون‏}‏ قرئ بالتاء على الخطاب أي لا تحسبن يا محمد الفارحين الذين يفرحون، وقرئ بالياء على الغيبة يعني ولا يحسبن الفارحون والمعنى لا يحسبن الذين يفرحون فرحهم منجياً لهم من العذاب نزلت هذه الآية في المنافقين ‏(‏ق‏)‏ عن أبي سعيد الخدري أن رجالاً من المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذروا إليه وحلفوا له وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا ‏{‏لا تحسبن الذين يفرحون بما أوتوا‏}‏ الآية وقيل نزلت في اليهود ‏(‏ق‏)‏ عن حميد بن عبدالرحمن بن عوف أن مروان قال اذهب يا رافع لبوابه إلى ابن عباس فقل لئن كان كل امرئ مما فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل لنعذبن أجمعون‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ مالكم‏.‏ ولهذه الآية إنما نزلت هذه الآية في أهل الكتاب ثم تلا ابن عباس‏:‏ ‏{‏وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس‏}‏ الآية وتلا ابن عباس‏:‏ ‏{‏لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا‏}‏ وقال ابن عباس سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا إليه بذلك وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه ‏{‏بما أتوا‏}‏ يعني يفرحون بما فعلوا ‏{‏ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا‏}‏ أي ويحبون أن يحمدهم الناس على شيء لي يفعلوه قيل عنى بذلك قوماً من أحبار اليود كانوا يفرحون بأضلالهم الناس ونسبة الناس إياهم إلى العلم قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب إلى قوله ولهم عذاب أليم‏}‏ يعني فنحاص وأسبيع وأشباههما من الأحبار الذين يفرحون بما يصيبون من الدنيا على ما زينوا للناس من الضلالة ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا أي بقول الناس لهم علماء وليسوا بأهل علم‏.‏ وقيل هم فرحوا باحتماع كلمتهم على تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وذلك أنهم كتبوا إلى يهود العراق والشام واليمن ومن يبلغهم كتابهم من اليهود في الأرض كلها أن محمداً ليس ببني فاثبتوا على دينكم فاجتمعت كلمتهم على الكفر ففرحوا بذلك، وقالوا‏:‏ نحن أهل الصوم والصلاة وأحبوا أن يحمدوا على ذلك‏.‏ وقيل فرحوا بما أوتوا من تبديلهم التوراة وأحبوا أن يحمدهم الناس على ذلك‏.‏ وقيل أن يهود خيبر أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا نحن نعرفك ونصدقك وقالوا لأصحابه نحن على رأيكم نحن لكم ردء وليس ذلك في قلوبهم وأحبوا أن يحمدهم النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون على ذلك ‏{‏فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب‏}‏ أي فلا تظنهم بمنجاة من العذاب الذي أعده الله لهم في الدنيا من القتل والأسر وضرب الجزية والذلة والصغار ‏{‏ولهم عذاب أليم‏}‏ يعني في الآخرة وهذه الآية وإن كانت قد نزلت في اليهود أو المنافقين خاصة فإن حكمها عام في كل من أحب أن يحمد بما لم يفعل من الخير والصلاح أو ينسب إلى العلم وليس هو كذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏189- 190‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏189‏)‏ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏190‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولله ملك السموات والأرض‏}‏ يعني أنه تعالى مالك لما فيهما جميعاً يتصرف فيه كيف يشاء وفيه تكذيب لمن قال إن الله فقير ونحن أغنياء يقول الله عز وجل‏:‏ إن من له جميع ما حوته السموات والأرض من شيء كيف يكون فقيراً ‏{‏والله على كل شيء قدير‏}‏ يعني أنه تعالى قادر على تعجيل العقوبة لهم على ذلك القول لكنه تفضل على خلقه بإمهالهم‏.‏ قوله عز وجل‏:‏

‏{‏إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب‏}‏ قال ابن عباس إن أهل مكة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بآية فنزلت هذه الآية والمعنى تفكروا واعتبروا أيها الناس فيما خلقته وأنشأته من السموات والأرض لمعاشكم وأرزاقكم وفيما عقبت من ذلك بين الليل والنهار، واختلافهما في الطول والقصر، فجعلتهما يختلفان ويعتقبان عليكم لكي تتصرفوا فيهما لمعاشكم تطبلون أرزاقكم في النهار وتسكنون في الليل لراحة أجسادكم، فاعتبروا وتفكروا يا أولي الألباب يعني يا ذوي العقول الصافية‏.‏ يعني الذين يفتحون بصائرهم للنظر والاستدلال‏.‏ والاعتبار لا ينظرون إليهما نظر البهائم غافلين عما فيهما من عجائب مخلوقاته وغرائب مبتدعاته ‏(‏ق‏)‏ عن ابن عباس أنه بات عند ميمونة أم المؤمنين وهي خالته قال‏:‏ فقلت‏:‏ لأنظرن إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فطرحت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسادة فاضطجعت في عرض الوسادة واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله في طولها فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل ثم استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يمسح النوم عن وجهه بيده ثم قرأ العشر آيات الخواتيم من سورة آل عمران‏.‏ ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ منها فأحسن وضوءه ثم قام يصلي‏.‏ قال عبدالله بن عباس فقمت فصنعت مثل ما صنع ثم ذهبت فقمت إلى جنبه فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده اليمنى إلى رأسي وأخذ بأذني ففتلها فصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم أوتر اضطجع حتى جاء المؤذن فقام فصلى ركعتين خفيفتين ثم خرج فصلى الصبح وفي رواية فقمت عن يساره فأخذني فجعلني عن يمينه وفي رواية قال بت في بيت خالتي ميمونة فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة ثم رقد فلما كان ثلث الليل الأخير قعد فنظر إلى السماء فقال‏:‏ ‏{‏إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب‏}‏ ذكره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏191- 192‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ‏(‏191‏)‏ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ‏(‏192‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم‏}‏ قال علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس وقتادة هذا في الصلاة‏.‏ يعني الذين يصلون قياماً فإن عجزوا فقعوداً فإن عجزوا فعلى جنوبهم والمعنى أنهم لا يتركون الصلاة في حال من الأحوال بل يصلون في كل حال ‏(‏خ‏)‏ عن عمران بن حصين قال كانت بي بواسير فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فقال‏:‏ «صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب» أخرجه الترمذي‏.‏ وقال فيه سألته عن صلاة المريض وذكره نحوه قال الشافعي رضي الله عنه إذا صلى المريض مضطجعاً وجب عليه أن يصلي على جنب ويومئ برأسه إيماء‏.‏ وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى‏:‏ بل يصلي مستلقياً على ظهره فإن وجد خفة قعد وحجة الشافعي ظاهر الآية وهو قوله تعالى وعلى جنوبهم وقوله صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين فإن لم تستطع فعلى جنب فنص على الجنب دون غيره‏.‏ وقال أكثر المفسرين المراد به المداومة على الذكر في غالب الأحوال لأن الإنسان قل أن يخلو من إحدى هذه الثلاث حالات وهي‏:‏ القيام والقعود وكونه نائماً على جنبه ‏(‏م‏)‏ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله عز وجل في كل أحيانه وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من قعد مقعداً لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة ومن اضطجع مضطجعاً لا يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة وما مشى أحد ممشى لا يذكر الله فيه إلاّ كانت عليه من الله ترة» أخرجه أبو داود والترة النقص وقيل هي هنا التبعة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويتفكرون في خلق السموات والأرض‏}‏ أصل الفكر إعمال الخاطر في الشيء وتردد القلب في ذلك الشيء وهو قوة متطرفة للعلم إلى المعلوم والتفكر جريان تلك القوة بحسب نظر العقل‏.‏ ولا يمكن التفكر إلاّ فيما له صورة في القلب ولهذا قيل تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله إذ الله منزه أن يوصف بصورة‏.‏ فلذلك أخبر عن عباده الصالحين بأنهم يتفكرون في خلق السموات والأرض وما أبدع الله فيهما من عجائب مصنوعاته وغرائب مبتدعاته ليدلهم ذلك على كمال قدرة الصانع سبحانه وتعالى ويعلموا أن لهما خالقاً قادراً مدبراً حكيماً لأن عظم آثاره وأفعاله تدل على عظم خالقها سبحانه وتعالى كما قيل‏:‏

وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد

وقيل‏:‏ إن الفكر مقلوب عن الفرك لأن الفكر مستعمل في المعاني وهو فرك الأمور وبحثها طلباً للوصول إلى حقيقتها‏.‏

وقيل الفكرة تذهب الغفلة وتحدث للقلب الخشية كما يحدث الماء للزرع النماء وما جليت القلوب بمثل الأحزان، ولا استنارت بمثل الفكرة ‏{‏ربنا‏}‏ أي ويقولون ربنا وقيل معناه ويتفكرون في خلق السموات والأرض قائلين ربنا ‏{‏ما خلقت هذا باطلاً‏}‏ يعني وهزلاً بل خلقته دليلاً على وحدانيتك وكمال قدرتك ‏{‏سبحانك‏}‏ تنزيهاً لك عن أن تخلق شيئاً عبثاً لغير حكمة ‏{‏فقنا عذاب النار‏}‏ يعني إنا قد صدقنا بوحدانيتك وإن لك جنة وناراً فقنا عذاب النار والمقصود من قوله سبحانك فقنا عذاب النار تعليم عباده كيفية الدعاء ويدل عليه قوله فقنا عذاب النار ‏{‏ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته‏}‏ أي أهنته وأذللته وقيل أهلكته وقيل فضحته وأبلغت في إيذائه والخزي ضرب من الاستخفاف أو انكسار يلحق الإنسان وهو الحياء المفرط‏.‏ فإن قلت قد تمسكت المعتزلة بهذه الآية وقالوا قد أخبرنا الله أنه لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه فوجب أن كل من يدخل النار لا يكون مؤمناً لقوله إنك من تدخل النار فقد أخزيته والمؤمن لا يخزي‏.‏ قلت قد ذكر العلماء في الجواب وجوهاً أحدها ما روي عن أنس في تفسير قوله تعالى إنك من تدخل النار فقد أخزيته قال من يخلده وروي نحوه عن سعيد بن المسيب قال هي خاصة لمن لا يخرج منها وهذا الجواب إنما يصح على مذهب أهل السنة الذين يرون إخراج الموحدين من النار أما على مذهب المعتزلة فلا يصح هذا الجواب لأن مذهبهم أن الفاسق مخلد في النار فهو داخل في قوله تعالى فقد أخزيته، الوجه الثاني في الجواب ان المدخل في النار مخزي في حال دخوله وإن كانت عاقبته أن يخرج منها ومعنى الاية على هذا فقد أخزيته بدخوله فيها وتعذيبه بها ويدل على صحة هذا المعنى ما روي عن عمرو بن دينار قال قدم علينا جابر بن عبدالله في عمرة فانتهيت إليه أنا وعطاء فسألته عنه هذه الآية‏:‏ ‏{‏ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته‏}‏ فقال وما أخزاه حين أحرقه بالنار إن دون ذا لخزيا‏.‏ وهذا الوجه هو اختيار ابن جرير الطبري لأن من أدخل النار فقد أخزي بدخوله إياها وإن خرج منها وذلك الخزي هو هتك المخزي وفضيحته‏.‏ وقال ابن الأنباري حمل الآية على العموم أولى من نقلها إلى الخصوص إذ لا دليل عليه، الوجه الثالث في الجواب ما قاله أهل المعاني وهو أن الخزي يحتمل معاني منها الإهانة والإهلاك الإبعاد‏.‏ وهذا للكفار ومنها الإخجال يقال خزي خزاية إذا استحى وإذا عمل عملاً يستحيي منه ويخجل فيكون خزي المؤمن الذي يدخل النار الحياء من المؤمنين بدخوله النار إلى أن يخرج منها‏.‏ وخزي الكافر والهلاك بالخلود في النار وحاصل هذا الجواب أن لفظ الإخزاء مشترك بين التخجيل والإهلاك‏.‏

واللفظ المشترك لا يمكن حمله في طرفي النفي الإثبات على معنييه جميعاً وهذا يسقط الاستدلال، الوجه الرابع في الجواب وهو الذي اختاره الفخر الرازي وصححه أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه‏}‏ لا يقتضي نفي الإخزاء مطلقاً وإنما يقتضي أن لا يحصل الإخزاء حال ما يكونون مع النبي وهذا النفي لا يناقضه إثبات الإخزاء في الجملة لاحتمال أن يحصل ذلك الإثبات في وقت آخر والله أعلم وقوله تعالى ‏{‏وما للظالمين‏}‏ يعني المشركين الذين وضعوا العبادة في غير موضعها ‏{‏من أنصار‏}‏ يعني ينصرونهم يوم القيامة ويمنعونهم من العذاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏193- 195‏]‏

‏{‏رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ‏(‏193‏)‏ رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ‏(‏194‏)‏ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ‏(‏195‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان‏}‏ قال ابن وأكثر المفسرين المنادي هو محمد صلى الله عليه وسلم ويدل على صحة هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادع إلى سبيل ربك بالحكمة‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وداعياً إلى الله بإذنه‏}‏ وقال محمد بن كعب القرظي المنادي هو القرآن قال إذ ليس كل أحد لقي النبي صلى الله عليه وسلم ووجه هذا لقول أن كل أحد يسمع القرآن ويفهمه فإذا وفقه الله تعالى للإيمان به فقد فاز به‏.‏ وذلك لأن القرآن مشتمل على الرشد والهدى وأنواع الدلائل الدالة على الوحدانية فصار كالداعي إليها واللام في للإيمان بمعنى إلى يعني ينادي إلى الإيمان ‏{‏أن آمنوا بربكم فآمنا‏}‏ أي فصدقنا ‏{‏ربنا فاغفر لنا ذنوبنا‏}‏ أي كبائر ذنوبنا ‏{‏وكفر عنا سيئاتنا‏}‏ أي صغائر ذنوبنا وقيل أن الغفر هو الستر والتغطية وكذلك التفكير فهماً بمعنى واحد وإنما ذكرهما للتأكيد لأن الإلحاح في الدعاء والمبالغة فيه مندوب إليه وقيل معناه اغفر لنا ما تقدم من ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا في المستقبل وقيل يريد بالغفران ما يزول بالتوبة من الذنوب وبالتفكير ما يكفر بالطاعات من الذنوب ‏{‏وتوفنا مع الأبرار‏}‏ يعني في جملتهم وزمرتهم والأبرار هم الأنبياء والصالحون والمعنى توفنا على مثل أعمالهم حتى نكون في درجتهم يوم القيامة وقيل توفنا في جملة أتباعهم وأشياعهم ‏{‏ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك‏}‏ يعني على ألسنة رسلك وقيل معناه وآتنا ما وعدتنا على تصديق رسلك‏.‏ فإن قلت كيف سألوا الله إنجاز ما وعد الله لا يخلف المعياد‏.‏ قلت معناه أنهم طلبوا من الله تعالى التوفيق فيما يحفظ عليهم أسباب إنجاز الميعاد‏.‏ وقيل هو من باب اللجأ إلى الله تعالى والتذلل له وإظهار الخضوع والعبودية‏.‏ كما أن الأنبياء عليهم السلام يستغفرون الله مع علمهم أنهم مغفرون لهم يقصدون بذلك التذلل لربهم سبحانه وتعالى والتضرع إليه واللجأ إليه الذي هو سيما العبودية‏.‏ وقيل معناه ربنا واجعلنا ممن يستحق ثوابك وتؤتيهم ما وعدتهم على ألسنة رسلك لأنهم لم يتيقنوا استحقاقهم لتلك الكرامة فسألوه ان يجعلهم مستحقين لها‏.‏ وقيل إنما سألوه تعجيل ما وعدهم من النصر على الأعداء وقالوا قد علمنا أنك لا تخلف الميعاد ولكن لا صبر لنا على حلمك فعجل هلاكهم وانصرنا عليهم ‏{‏ولا تخزنا يوم القيامة‏}‏ يعني ولا تهلكنا ولا تفضحنا ولا تهنا في ذلك اليوم فإن قلت قوله وآتنا ما وعدتنا على رسلك يدل على طلب الثواب ومتى حصل الثواب اندفع العقاب لا محالة فما معنى قوله ولا تخزنا وهو طلب دفع العقاب عنهمم قلت المقصود من الآية طلب التوفيق على الطاعة والعصمة عن فعل المعصية كأنهم قالوا وفقنا للطاعات وإذا وفقنا لها فاعصمنا عن فعل ما يبطلها ويوقعنا في الخزي وهو الهلاك ويحتمل أن يكون قوله ولا تخزنا يوم القيامة سبباً لقوله تعالى‏:‏

‏{‏وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون‏}‏ فإنه ربما يظن الإنسان أنه على عمل صالح فإذا كان يوم القيامة ظهر أنه على غير ما يظن فيحصل الخجل والحسرة والندامة في موقف فسألوا الله تعالى أن يزيل ذلك عنهم فقالوا ‏{‏ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاستجاب لهم ربهم‏}‏ يعني أجاب دعاءهم وأعطاهم ما سألوه ‏{‏أني‏}‏ أي وقال لهم أني ‏{‏لا أضيع عمل عامل منكم‏}‏ يعني لا أحبط عملكم أيها المؤمنون بل أثيبمك عليه ‏{‏من ذكر أو أثنى‏}‏ يعني لا أضيع عمل عامل منكم ذكراً أو أنثى عن أم سلمة قالت قلت يا رسول الله ما أسمع الله تعالى ذكر النساء في الهجرة بشيء فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض إلى- والله عنده حسن الثواب‏}‏ أخرجه الترمذي وغيره‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بعضكم من بعض‏}‏ يعني في الدين والنصرة والموالاة‏.‏ وقيل كلكم من آدم وحواء وقيل بمعنى الكاف أي بعضكم كبعض في الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية فهو كما يقال‏:‏ فلان يعني على خلقي وسيرتي وقيل إن الرجال والنساء في الطاعة على شكل واحد ‏{‏فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي‏}‏ يعني المهاجرين الذين هجروا أوطانهم وأهليهم وأذاهم المشركون بسبب إسلامهم ومتابعتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجوا مهاجرين إلى الله ورسوله وتركوا أوطانهم وعشائرهم لله ورسوله ومعنى ‏{‏في سبيلي‏}‏ في طاعتي وديني وابتغاء مرضاتي وهم المهاجرون الذين أخرجهم المشركون من مكة فهاجر طائفة إلى الحبشة وطائفة إلى المدينة قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد هجرته فلما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة رجع إليه من كان هاجر إلى الحبشة من المسلمين ‏{‏وقاتلوا وقتلوا‏}‏ يعني وقاتلوا العدو واستشهدوا في جهاد الكفار ‏{‏لأكفرن عنهم سيئاتهم‏}‏ يعني لأمحون عنهم ذنوبهم ولأغفرنها لهم ‏{‏ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثواباً من عند الله‏}‏ يعني ذلك الذي أعطاهم من تكفير سيئاتهم وإدخالهم الجنة ثواباً من فضل الله وإحسانه إليهم ‏{‏والله عنده حسن الثواب‏}‏ وهذا تأكيد لكون ذلك الثواب الذي أعطاهم من فضله وكرمه لأنه جواد كريم روى ابن جرير الطبري بسنده عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «إن أول ثلة تدخل الجنة فقراء المهاجرين الذين يتقى بهم المكاره إذا أمروا سمعوا وأطاعوا وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى سلطان لم تقض له حتى يموت وهي في صدره» فإن الله عز وجل يدعو يوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفها وزينتها فيقول أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وقتلوا وأوذوا في سبيلي وجاهدوا في سبيلي، ادخلوا الجنة فيدخلونها بغير عذاب ولا حساب وتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون‏:‏ ربنا نحن نسبح لك الليل والنهار ونقدس لك؛ من هؤلاء الذين آثرتهم علينا‏؟‏ فيقول الرب عز وجل‏:‏ هؤلاء عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وأوذوا في سبيلي فتدخل الملائكة عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار‏.‏

قال بعضهم في هذه الاية تعليم من الله تعالى لعباده كيف يدعى وكيف يبتهل إليه ويتضرع وتكرير ربنا من باب الابتهال وإعلام بما يوجب حسن الإجابة‏.‏ وقال جعفر الصادق من حزبه أمر فقال خمس مرات‏:‏ ربنا نجّاه الله تعالى مما يخاف وأعطاه ما أراد وقرأ هذه الاية وقال الحسن حكى الله عنهم أنهم قالوا خمس مرات ربنا ثم أخبر أنه استجاب لهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏196- 198‏]‏

‏{‏لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ ‏(‏196‏)‏ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏197‏)‏ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ ‏(‏198‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد‏}‏ نزلت في المشركين وذلك أنهم كانوا في رخاء ولين من العيش يتجرون ويتنعمون فقال بعض المؤمنين‏:‏ إن أعداء الله فيما نرى من الخير ونحن في الجهد فأنزل الله تعالى هذه الآية لا يغرنك الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره من الأمة لأنه صلى الله عليه وسلم لم يغتر قط والمعنى لا يغرنك أيها السامع تقلب الذين كفروا في البلاد يعني ضربهم في الأرض وتصرفهم في البلاد للتجارات وطلب الأرباح والمكاسب ‏{‏متاع قليل‏}‏ أي ذلك متاع قليل وبلغة فانية ونعمة زائلة ‏{‏ثم مأواهم‏}‏ يعني مصيرهم في الآخرة ‏{‏جهنم وبئس المصير‏}‏ أي وبئس الفراش هي‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لكن الذين اتقوا ربهم‏}‏ فيما أمرهم به من العمل بطاعته واتباع مرضاته واجتناب ما نهاهم عنه من معاصيه ‏{‏لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلاً‏}‏ أي جزاء وثواباً والنزل ما يهيأ للضيف عند قدومه ‏{‏من عند الله‏}‏ يعني من فضل الله وكرمه وإحسانه ‏{‏وما عند الله‏}‏ يعني من الخير والكرامة والنعيم الدائم الذي لا ينقطع ‏{‏خير للأبرار‏}‏ يعني ذلك الفضل والنعمة التي أعدها الله للمطيعين الأبرار خير مما يتقلّب فيه هؤلاء الكفار من نعيم الدنيا ومتاعها فإنه قليل زائل ‏(‏ق‏)‏ عن عمر بن الخطاب قال‏:‏ جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو في مشربة وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف وعند رجليه قرظ مصبور وعند رأسه أهب معلقة فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت فقال‏:‏ ما يبكيك‏؟‏ قلت‏:‏ يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هم وأنت رسول الله فقال أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة‏.‏ لفظ البخاري المشربة الغرفة والعلية والمشارب العلالي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏199- 200‏]‏

‏{‏وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏199‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏200‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم‏}‏ قال ابن عباس نزلت في النجاشي ملك الحبشة واسمه أصحمة ومعناه بالعربية عطية وذلك إنه لما مات نعاه جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه اخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم النجاشي‏.‏ فخرج إلى البقيع وكشف له إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي فصلى عليه وكبر أربع تكبيرات واستغفر له فقال المنافقون انظروا إلى هذا يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط وليس على دينه فأنزل الله تعالى هذه الآية وقيل نزلت في أربعين رجلاً من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى عليه السلام فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وصدقوه‏.‏ وقيل نزلت في عبدالله بن سلام وأصحابه الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وقيل نزلت في جميع مؤمني أهل الكتاب وهذا القول أولى لأنه لما ذكر أحوال الكفار وأحوال أهل الكتاب وأن مصيرهم إلى النار ذكر حال من آمن من أهل الكتاب وأن مصيرهم إلى الجنة فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن من أهل الكتاب‏}‏ يعني بعض اليهود والنصارى أهل التوراة والإنجيل لمن يؤمن بالله يعني من يقر بوحدانية الله وما أنزل إليكم يعني ويؤمن بما أنزل إليكم أيها المؤمنون يعني القرآن وما أنزل إليهم يعني من الكتب المنزلة مثل التوراة والإنجيل والزبور ‏{‏خاشعين لله‏}‏ يعني خاضعين لله متواضعين له غير مستكبرين ‏{‏لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً‏}‏ يعني لا يغيرون كتبهم ولا يحرفونها ولا يكتمون صفة محمد صلى الله عليه وسلم لأجل الرياسة والمأكل والرشى كا يفعله غيرهم من رؤساء اليهود ‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى أن من هذه صفته من أهل الكتاب ‏{‏لهم أجرهم عند ربهم‏}‏ يعني لهم ثواب أعمالهم التي عملوها لله ذلك الثواب لهم ذخر عند الله يوفيه إليهم يوم القيامة ‏{‏إن الله سريع الحساب‏}‏ يعني إنه تعالى عالم بجميع المعلومات لا يخفى عليه شيء من أعمال عباده فيجازي كل أحد على قدر عمله لأنه سريع الحساب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اصبروا‏}‏ يعني على دينكم الذي أنتم عليه ولا تدعوه لشدة ولا لغيرها وأصل الصبر حبس النفس عما لا يقتضيه شرع ولا عقل‏.‏ والصبر لفظ عام تحته أنواع من المعاني قال بعض الحكماء‏:‏ الصبر على ثلاثة أقسام ترك الشكوى وقبول القضاء وصدق الرضا‏.‏ وقيل في معنى الآية اصبروا على طاعة الله وقيل على أداء الفرائض وقيل على تلاوة القرآن وقيل اصبروا على أمر الله وقيل اصبروا على البلاء وقيل اصبروا على الجهاد وقيل اصبروا على أحكام الكتاب والسنة ‏{‏وصابروا‏}‏ يعني الكفار والأعداء وجاهدوهم‏.‏

‏{‏ورابطوا‏}‏ يعني وداموا على جهاد المشركين واثبتوا عليه‏.‏ وأصل المرابطة أن يربط هؤلاء خيولهم‏.‏ وهؤلاء خيولهم، بحيث يكون كل من الخصمين مستعداً لقتال الآخر‏.‏ ثم قيل لكل مقيم بثغر يدفع عمن وراءه مرابط، وإن لم يكن له مركب مربوط ‏(‏ق‏)‏ عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها والروحة يروحها العبد في سبيل الله والغدوة خير من الدنيا وما عليها» ‏(‏م‏)‏ عن سلمان الخير قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات فيه جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه وأمن الفتان» وقيل المراد بالمرابطة انتظار الصلاة بعد الصلاة قال أبو سلمة بن عبدالرحمن‏:‏ لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه ولكنه انتظار الصلاة خلف ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات قالوا بلى يا رسول الله قال إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة‏.‏ فذلكم الرباط فذلكم الرباط» أخرجه مسلم ‏{‏واتقوا الله لعلكم تفلحون‏}‏ قال محمد بن كعب القرظي يقول الله عز وجل‏:‏ «واتقوا الله فيما بيني وبينكم لعلكم تفلحون» غداً إذا لقيتموني وقال أهل المعاني في معنى هذه الآية يا أيها الذين آمنوا اصبروا على بلائي وصابروا على نعمائي ورابطوا على مجاهدة أعدائي واتقوا محبة سوائي لعلكم تفلحون بلقائي وقيل اصبروا على النعماء وصابروا على البأساء الضراء ورابطوا في دار الأعداء واتقوا إله الأرض والسماء لعلكم تفلحون في دار البقاء وقيل اصبروا على الدنيا ومحنها رجاء السلامة وصابروا عند القتال بالثبات والاستقامة ورابطوا على مجاهدة النفس اللوامة واتقوا الندامة لعلكم تفلحون غداً في دار الكرامة والله أعلم بمراده وأسرار كتابه‏.‏

سورة النساء

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ‏(‏1‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس‏}‏ خطاب للكافة فهو كقوله يا بني آدم ‏{‏اتقوا ربكم‏}‏ أي احذروا أمر ربكم أن تخالفوه فميا أمركم به أو نهاكم عنه ثم وصف نفسه بكمال القدرة فقال تعالى ‏{‏الذي خلقكم من نفس واحدة‏}‏ يعني من أصل واحد وهو آدم أبو البشر عليه السلام وإنما أنث الوصف على لفظ النفس وإن كان المراد به الذكر فهو كما قال بعضهم‏:‏

أبوك خليفة ولدته أخرى *** وأنت خليفة ذاك الكمال

فإنما قال ولدته أخرى لتأنيث ‏{‏وخلق منها زوجها‏}‏ يعني حواء وذلك أن الله تعالى لما خلق آدم عليه السلام ألقى عليه النوم ثم خلق حواء من ضلع من أضلاعه اليسرى، وهو قصير‏.‏ فلما استيقظ رآها جالسة عند رأسه فقال لها‏:‏ من أنت‏؟‏ قال‏:‏ امرأة قال‏:‏ لماذا خلقت قالت خلقت لتسكن إليّ فمال إليها وألفها لأنها خلقت منه واختلفوا في أي وقت خلقت حواء‏.‏ فقال كعب الأحبار ووهب وابن إسحاق خلقت قبل دخوله الجنة وقال ابن مسعود وابن عباس إنما خلقت في الجنة بعد دخوله إياها ‏{‏وبث منهما‏}‏ يعني نشر وأظهر من آدم وحواء ‏{‏رجالاً كثيراً ونساء‏}‏ إنما وصف الرجال بالكثرة دون النساء لأن حال الرجال أتم وأكمل وهذا كالتنبيه عن أن اللائق بحال الرجال الظهور والاستشهار وبحال النساء الاختفاء والخمول ‏{‏واتقوا الله الذي تساءلون به‏}‏ إنما كرر التقوى للتأكيد وأنه أهل أن يتقى والتساؤل بالله هو كقولك أسألك بالله واحلف عليك بالله واستشفع إليك بالله ‏{‏والأرحام‏}‏ قرئ بفتح الميم ومعناه واتقوا الأرحام أن تقطعوها وقرئ بكسر الميم فهو كقولك سألتك بالله وبالرحم وناشدتك بالله وبالرحم لأن العرب كان من عادتهم أن يقولوا ذلك والرحم القرابة‏.‏ وإنما استعير اسم الرحم للقرابة لأنهم خرجوا من رحم واحدة وقيل هو مشتق من الرحمة لأن القرابة يتراحمون ويعطف بعضهم على بعض‏.‏ وفي الآية دليل على تعظيم حق الرحم والنهي عن قطعها ويدل على ذلك أيضاً الأحاديث الواردة في ذلك ‏(‏ق‏)‏ عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله» ‏(‏ق‏)‏ عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من سره أن يبسط عليه من رزقه وينسأ في أثره فليصل رحمه» قوله وينسأ في أثره أي يؤخر له في أجله‏.‏ ‏(‏ق‏)‏ عن جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا يدخل الجنة قاطع» قال سفيان في روايته يعني قاطع رحم وعن الحسن قال من سألك بالله فأعطه ومن سألك بالرحم فأعطه وعن ابن عباس قال‏:‏ الرحم معلقة بالعرش فإذا أتاها الواصل بشت به وكلمته وإذا أتاها القاطع احتجبت عنه ‏{‏إن الله كان عليكم رقيباً‏}‏ يعني حافظاً والرقيب في صفة الله تعالى هو الذي لا يغفل عما خلق فليحقه نقص ويدخل عليه خلل وقيل هو الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء من أمر خلقه فبيّن بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله كان عليكم رقيباً‏}‏ إنه يعلم السر وأخفى، وإذا كان كذلك فهو جدير بأن يخاف ويتقى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 3‏]‏

‏{‏وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ‏(‏2‏)‏ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وآتوا اليتامى أموالهم‏}‏ نزلت في رجل من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم كان في حجره فلما بلغ اليتيم طلب المال الذي له فمنعه عمه فترافعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية فلما سمعها العم قال‏:‏ «أطعنا الله وأطعنا الرسول نعوذ بالله من الحوب الكبير ودفع إلى اليتيم ماله» فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فإنه يحل داره» يعني جنته فلما قبض الصبي أنفقه في سبيل الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ثبت الأجر وبقي الوزر فقالوا كيف ثبت الأجر وبقي الوزر‏؟‏ قال ثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على أبيه» والخطاب في قوله تعالى ‏{‏وآتوا‏}‏ خطاب للأولياء والأوصياء واليتامى جمع يتيم وهو الصبي وصار الذي مات أبوه واليتيم في اللغة الانفراد ومن الدرة اليتيمة لانفرادها واسم اليتيم يقع على الصغير والكبير لغة لبقاء معنى الانفراد عن الآباء لكن في العرف اختص اسم اليتيم بمن لم يبلغ مبلغ الرجال‏.‏ فإذا بلغ الصبي وصار يستغني بنفسه عن غيره زال عنه اسم اليتم وسئل ابن عباس اليتيم متى ينقطع عنه اسم اليتم‏؟‏ قال إذا أونس منه الرشد وإنما سماهم يتامى بعد البلوغ على مقتضى اللغة أو لقرب عهدهم باليتم وإن كان قد زال عنهم بالبلوغ وقيل المراد باليتامى الصغار الذين لم يبلغوا والمعنى ‏{‏وآتوا اليتامى أموالهم‏}‏ بعد البلوغ وتحقق الرشد وقيل معناه وآتوا اليتامى الصغار ما يحتجون إليه من نفقة وكسوة والقول الأول هو الصحيح إذا المراد باليتامى البالغون لأنه لأنه لا يجوز دفع المال إلى اليتيم إلا بعد بلوغ وتحقق الرشد ‏{‏ولا تتبدلوا‏}‏ أي ولا تستبدلوا ‏{‏الخبيث بالطيب‏}‏ يعني الخبيث الذي هو حرام عليكم بالحلال من أموالكم واختلفوا في هذا التبديل فقال سعيد بن المسيب والنخعي والزهري والسدي كان أولياء اليتامى يأخذون الجيد من مال اليتيم ويجعلون مكانه الرديء، فربما كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة ويجعل مكانها الهزيلة ويأخذ الدرهم الجيد ويجعل مكانه الزيف ويقول شاة بشاة ودرهم بدرهم فذلك تبديلهم فنهوا عنه وقال عطاء هو الربح في مال اليتيم وهو صغير لا علم له بذلك‏.‏ وقيل إنه ليس بإبدال حقيقة‏.‏ وإنما هو أخذه مستهلكاً وذلك أن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون النساء والصغار وإنما كان يأخذ الميراث الأكابر من الرجال وقيل هو أكل مال اليتيم عوضاً عن أكل أموالهم فنهوا عن ذلك ‏{‏ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم‏}‏ يعني مع أموالكم وقيل معناه ولا تضموا أموالهم إلى أموالكم في الإنفاق واعلم أن الله تعالى نهى عن أكل مال اليتيم وأراد به جميع التصرفات المهلكة للمال وإنما ذكر الأكل لأنه معظم المقصود ‏{‏إنه كان حوباً كبيراً‏}‏ يعني أن أكل مال اليتيم من غير حق إثم عظيم والحوب الإثم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى‏}‏ يعني وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا فيهن إذا نكحتموهن فانكحوا غيرهن من الغرائب ‏(‏ق‏)‏ عن عروة أنه سأل عائشة رضي الله تعالى عنهما عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء إلى قوله أو ملكت أيمانكم‏}‏ قالت يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها ويريد أن ينتقص صداقها فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق وأمروا بنكاح من سواهن قالت عائشة رضي الله عنها فاستفتى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فأنزل الله عز وجل ‏{‏ويستفتونك في النساء‏}‏ إلى ‏{‏وترغبون أن تنكحوهن‏}‏ فبيّن الله لهم هذه الآية أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال ومال رغبوا في نكاحها ولم يلحقوها بسنتها في إكمال الصداق وإن كانت مرغوبة عنها قلة المال والجمال تركوها والتمسوا غيرها من النساء قال فكلما يتركونها حين يرغبونها عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها الأوفى من الصداق‏.‏ وقال الحسن كان الرجل من أهل المدينة تكون عنده الأيتام وفيهن من يحل له نكاحها فيتزوجها لأجل مالها وهي لا تعجبه كراهية أن يدخل غريب فيشاركه في مالها ثم يسيء صحبتها ويتربص بها إلى أن تموت فيورثها فعاب الله ذلك عليهم وأنزل هذه الآية‏.‏ وقال عكرمة في روايته عن ابن عباس كان الرجل من قريش يتزوج العشر من النساء أو أكثر فإذا صار معدماً من نساء مال إلى مال يتيمته التي في حجره فأنفقه فقيل لهم‏:‏ لا تزيدوا على أربع حتى لا يحوجكم إلى أخذ مال اليتامى وقيل كانوا يتحرجون عن أموال اليتامى ويترخصون في النساء فيتزوجون ما شاؤوا فربما عدلوا وربما لم يعدلوا فلما أنزل الله تعالى في أموال اليتامى ‏{‏وآتوا اليتامى أموالهم‏}‏ أنزل هذه الآية ‏{‏وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى‏}‏ يقول فكلما خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فكذلك خافوا في النساء ألا تعدلوا فيهن فلا تتزوجوا أكثر مما يمكنكم القيام بحقهن، لأن النساء في الضعف كاليتامى‏.‏ وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة والضحاك والسدي‏:‏ ثم رخص الله تعالى في نكاح أربع فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فانكحوا ما طاب لكم من النساء‏}‏ يعني ما حل لكم من النساء واستدلت الظاهرية بهذه الآية على وجوب النكاح قالوا لأن قوله فانكحوا أمر والأمر للوجوب‏.‏ وأجيب عنه بأن قوله تعالى فانكحوا إنما هو بيان لم يحل من العدد في النكاح وتمسك الشافعي في بيان أن النكاح ليس بواجب بقوله

‏{‏ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح‏}‏ إلى قوله ‏{‏ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم‏}‏ الآية فحكم في هذه السورة بأن ترك النكاح خير من فعله وذلك يدل على أنه ليس بواجب ولا مندوب وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مثنى وثلاث ورباع‏}‏ معناه اثنين اثنين وثلاثاً ثلاثاً وأربعاً أربعاً وهو غير منصرف لأنه اجتمع فيه أمران‏:‏ العدل والوصف والواو بمعنى أو في هذا الفصل لأنه لما كانت أو بمنزلة واو النسق جاز أن تكون الواو بمنزلة أو‏.‏ وقيل إن الواو أفادت أنه يجوز لكل أحد أن يختار لنفسه قسماً من هذه الأقسام بحسب حاله فإن قدر على نكاح اثنتين فاثنتان‏.‏ وإن قدر على ثلاث فثلاث وإن قدر على أربع فأربع إلا أنه يضم عدداً وأجمعت الأمة على أنه لا يجوز لأحد أن يزيد على أربع نسوة وأن الزيادة على أربع من خصائص رسول الله عليه وسلم التي لا يشاركه فيها أحد من الأمة ويدل على أن الزيادة على أربع غير جائزة وأنها حرام ما روي عن الحارث بن قيس الحارث قال‏:‏ أسلمت وعندي ثمان نسوة فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «اختر منهن أربعاً» أخرجه أبو داود‏.‏ عن ابن عمران غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وله عشر نسوة في الجاهلية فأسلمن معه فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعاً‏.‏ أخرجه الترمذي قال العلماء‏:‏ فيجوز للحر أن يجمع بين أربع نسوة حرائر ولا يجوز للعبد أن ينكح أكثر من امرأتين وهو قول أكثر العلماء لأنه خطاب لمن ولي وملك وذلك للأحرار دون العبيد‏.‏ وقال مالك في إحدى الروايتين عنه وربيعة‏:‏ يجوز للعبد أن يتزوج بأربع نسوة واستدل بهذه الآية وأجاب الشافعي بأن هذه الآية مختصة بالأحرار ويدل عليه آخر الآية وهو قوله‏:‏ ‏{‏فإن خفتم‏}‏ ألاّ تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم أو العبد لا يملك شيئاً فثبت بذلك أن المراد من حكم الآية الأحرار دون العبيد‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن خفتم‏}‏ يعني فإن خشيتم وقيل فإن علمتم ‏{‏ألاّ تعدلوا‏}‏ يعني بين الأزواج الأربع ‏{‏فواحدة‏}‏ يعني فانكحوا واحدة ‏{‏أو ما ملكت أيمانكم‏}‏ يعني وما ملكتم من السراري لأنه لا يلزم فيهن من الحقوق مثل ما يلزم في الحرائر ولا قسم لهن ‏{‏ذلك أدنى‏}‏ أي أقرب ‏{‏أن لا تعولوا‏}‏ معناه أقرب من أن لا تعولوا فحذف لفظة من لدلالة الكلام عليه ومعنى أن لا تعولوا أي لا تميلوا ولا تجوروا وهو قول أكثر المفسرين لأن أصل العول الميل يقال‏:‏ عال الميزان إذا مال وقيل معناه لا تجاوزوا ما فرض الله عليكم ومنه عول الفرائض إذا جاوزت سهامها وقيل معناه ذلك أدنى لا تضلوا‏.‏

وقال الشافعي رحمه الله تعالى معناه أن لا تكثر عيالكم وقد أنكر على الشافعي من ليس له إحاطة بلغة العرب‏.‏ فقال إنما يقال من كثرة العيال أعال الرجل يعيل إعالة إذا كثر عياله‏.‏ قال وهذا من خطأ الشافعي لأنه انفرد به ولم يوافقه عليه أحد وإنما قال هذه المقالة من أنكر على الشافعي وخطأه من غير علم له بلغة العرب فقد روى الأزهري في كتابه تهذيب اللغة عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم في قوله الفصحاء ألا تعولوا أي لا تكثر عيالكم‏.‏ وروى الأزهري عن الكسائي قال عال الرجل إذا افتقر وأعال إذا كثر عياله قال ومن العرب الفصحاء من يقول عال يعول إذا كثر عياله قال الأزهري وهذا يقوي قول الشافعي لأن الكسائي لا يحكي عن العرب إلا ما حفظه وضبطه وقول الشافعي نفسه حجة لأنه عربي فصيح والذي اعترض عليه وخطأه عجل ولم يثبت فيما قال ولا ينبغي للحضري أن يعجل إلى إنكار ما لا يحفظه من لغات العرب هذا آخر كلام الأزهري‏.‏ وبسط الإمام فخرالدين الرازي في هذا الموضع من تفسيره ورد على أبي بكر الرازي ثم قال الطعن لا يصدر إلا عن كثرة الغباوة وقلة المعرفة‏.‏ وحكى البغوي عن أبي حاتم قال كان الشافعي أعلم بلسان العرب منا ولعله لغة ويقال هي لغة حمير وقرأ طلحة بن مصرف ألا تعيلوا بضم التاء وهو حجة للشافعي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏وآتوا النساء صدقاتهن‏}‏ قال الكلبي وجماعة هذا خطاب للأولياء قال أبو صالح كان الرجل إذا تزوج أيمة أخذ صداقها دونها فنهاهم الله عن ذلك‏.‏ وقيل إن ولي المرأة كان إذا زوجها فإن كانت معهم في العشيرة لم يعطها من مهرها لا قليلاً ولا كثيراً، وإن كان زوجها غريباً حملوها إليه على بعير ولا يعطيها من مهرها غير ذلك فنهاهم الله عن ذلك وأمرهم أن يدفعوا الحق إلى أهله‏.‏ وقال الحضرمي كان أولياء النساء يعطي هذا أخته على أن يعطيه الآخر أخته ولا مهر بينهما وهذا هو الشغار فنهاهم الله عن ذلك وأمرهم بتسمية المهر في العقد ‏(‏ق‏)‏ عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار في العقد والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الرجل ابنته وليس بينهما صداق‏.‏ وقيل الخطاب للأزواج وهذا أصح وهو قول الأكثرين لأن الخطاب فيما قبل مع الناكحين وهم الأزواج أمرهم الله تعالى بإتيان نسائهم الصداق والصداق المهور واحدها صدقة بفتح الصاد وضم الدال ‏{‏نحلة‏}‏ يعني فريضة مسماة وقيل عطية وهبة‏.‏ وقيل نحلة يعني عن طيب نفس وأصل النحلة العطية على سبيل التبرع وهي أخص من الهبة وسمي الصداق نحلة من حيث إنه لا يجب في مقابلته غير التمتع دون عرض مالي ‏(‏ق‏)‏ عن عقبة بن عامر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أحق الشروط أن توفوا بها ما استحللتم به الفروج» وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن طبن‏}‏ يعني النساء المتزوجات ‏{‏لكم‏}‏ يعني للأزواج ‏{‏عن شيء منه‏}‏ يعني من الصداق ومن هنا لبيان الجنس لا للتبعيض لأنها لو وهبت المرأة لزوجها جميع صداقها جاز ‏{‏نفساً‏}‏ نصب على التمييز والمعنى فإن طابت نفوسهن عن شيء من ذلك الصداق المبين فوهبن ذلك لكم فنقل الفعل من النفوس إلى أصحابها فخرجت النفس مفسراً فلذلك وحد النفس وقيل لفظة واحد ومعناه الجمع ‏{‏فكلوه‏}‏ يعني ما وهبنه لكم ‏{‏هنيئاً مريئاً‏}‏ يعني طيباً سائغاً وقيل الهنيء الطيب المساغ الذي لا ينغصه شيء والمريء المحمود العاقبة وفي الآية دليل على إباحة هبة المرأة صداقها وأنها تملكه ولا حق للوالي فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تؤتوا السفهاء أموالكم‏}‏ اختلفوا في هؤلاء السفهاء من هم فقيل هم النساء نهى الله الرجال أن يؤتوا النساء أموالهم سواء كن أزواجاً أو بنات أو أمهات وقيل هم الأولاد خاصة يقول لا تعط ولدك السفيه مالك الذي هو قيامك فيفسده عليك وقيل امرأتك وابنك السفيه‏.‏ قال ابن عباس لا تعمد إلى مالك الذي خولك الله وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك وابنك فيكونوا هم الذين يقومون عليك ثم تنظر إلى ما بين أيديهم أمسك مالك وأصلحه وكن أنت الذي تنفق عليهم في رزقهم ومؤنتهم‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ إذا علم الرجل إن امرأته سفيهة مفسدة وإن ولده سفيه مفسد لا ينبغي له أن يسلط واحداً منهما على ماله فيفسده‏.‏ وقال سعيد بن جبير هو مال اليتيم يكون عندك يقول لا تؤته إياه وأنفق عليه منه حتى يبلغ وإنما أضاف المال على الأولياء لأنهم قوامها ومدبروها‏.‏ وأصل السفه الخفة واستعمل في خفة النفس لنقصان العقل في الأمور الدنيوية والدينية والسفيه المستحق الحجر هو الذي يكون مبذراً في ماله ومفسداً في دينه فلا يجوز لوليه أن يدفع إليه ماله‏.‏ وقيل إن السفه المذكور في هذه الآية ليس هو صفة ذم لهؤلاء وإنما سموا سفهاء لخفة عقولهم ونقصان تمييزهم وضعفهم عن القيام بحفظ المال فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تؤتوا السفهاء‏}‏ يعني الجهال بموضع الحق أموالكم ‏{‏التي جعل الله لكم قياماً‏}‏ يعني قوام معايشكم يقول المال هو قوام الناس وقوام معايشهم كن أنت قيم أهلك أنفق عليهم ولا تؤت مالك امرأتك وولدك فيكونوا هم الذين يقومون عليك‏.‏ ولما كان المال سبباً للقيام بالمعاش سمي به إطلاقاً لاسم المسبب على السبب على المبالغة لأنه به يقام الحج والجهاد وأعمال البر وفكاك الرقاب من النار ‏{‏وارزقوهم فيها‏}‏ أي أطعموهم ‏{‏واكسوهم‏}‏ يعني لمن يجب عليكم رزقه وكسوته لما نهى الله عن إيتاء المال للسفيه أمر أن يجري رزقه وكسوته وإنما قال‏:‏ وارزقوهم فيها ولم يقل منها لأنه أراد اجعلوا لهم فيها رزقاً والرزق من الله تعالى هو العطية من عير حد ولا قطع ومعنى الرزق من العباد هو الأجر الموظف المعلوم لوقت معلوم محدود ‏{‏وقولوا لهم قولاً معروفاً‏}‏ يعني قولاً جميلاً لأن القول الجميل يؤثر في القلب ويزيل السفه وقيل معناه عدوهم عدة جميلة من البر والصلة‏.‏ قال عطاء يقول‏:‏ إذا ربحت أعطيتك وإن غنمت قسمت لك حظاً وقيل معناه الدعاء أي ادعوا لهم‏.‏ قال ابن زيد إن لم يكن ممن تجب عليك نفقته فقل له عافانا الله وإياك بارك الله فيك‏.‏ وقيل معناه قولوا لهم قولاً تطيب به أنفسهم وهو أن يقول الولي لليتيم السفيه‏:‏ مالك عندي وأنا أمين عليه فإذا بلغت ورشدت أعطيتك مالك‏.‏ وقال الزجاج معناه علموهم مع إطعامكم وكسوتكم إياههم أمر دينهم مما يتعلق بالعلم والعمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وابتلوا اليتامى‏}‏ الآية نزلت في ثابت بن رفاعة وفي عمه وذلك أن رفاعة مات وترك ابنه ثابتاً وهو صغير فجاء عمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له إن ابن أخي يتيم في حجري فيما يحل لي من ماله ومتى أدفع إليه ماله‏؟‏ فأنزل الله تعالى هذه الآية ‏{‏وابتلوا اليتامى‏}‏ يعني اختبروهم في عقولهم وأديانهم وحقوق أموالهم ‏{‏حتى إذا بلغوا النكاح‏}‏ أي مبلغ الرجال والنساء ‏{‏فإن آنستم‏}‏ أي أبصرتم وعرفتم ‏{‏منهم رشداً‏}‏ يعني عقلاً وصلاحاً في الدين وحفظاً للمال وعلماً بما يصلحه‏.‏

فصل في أحكام تتعلق بالحجر

وفيه مسائل‏:‏

المسألة الأولى‏:‏ الابتلاء يختلف باختلاف أحوال اليتامى فإن كان ممن يتصرف بالبيع والشراء في الأسواق يدفع إليه شيئاً يسيراً من المال، وينظر في تصرفه وإن كان ممن لا يتصرف في الأسواق فيختبر بنفقته على أهله وعبيده وأجرائه وتصرفه في أموال داره، وتختبر المرأة في أمر بيتها وحفظ متاعها وغزلها واستغزالها فإذا رأى حسن تدبير اليتيم وحسن تصرفه في الأمور مرار أو غلب على الظن رشده دفع إليه ماله بعد بلوغه ولا يدفع إليه ماله وإن كان شيخاً يغلب عليه السفه حتى يؤنس منه الرشد‏.‏

المسألة الثانية‏:‏ قال الإمام أبو حنيفة‏:‏ تصرفات الصبي العاقل المميز بإذن الولي صحيحة‏.‏ وقال الشافعي هي غير صحيحة‏.‏ واحتج أبو حنيفة على قوله بهذه الآية وذلك لأن قوله تعالى وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح يقتضي أن هذا الابتلاء إنما يحصل قبل البلوغ والمراد من هذا الابتلاء اختبار حاله في جميع تصرفاته فثبت أن قوله وابتلوا اليتامى أمر للأولياء بالإذن لهم في البيع والشراء قبل البلوغ أجاب الشافعي بأن قال ليس المراد وابتلوا اليتامى الإذن لهم في التصرف حال الصغر بدليل قوله فإن آنستم منهم رشداً ‏{‏فادفعوا إليهم أموالهم‏}‏ وإنما تدفع إليهم أموالهم بعد البلوغ وإيناس الرشد فثبت بموجب هذه الآية أنه لا يدفع إليه ماله حال الصغر فوجب إن لا يصح تصرفه حال الصغر وإنما المراد من الابتلاء هو اختبار عقله واستكشاف حاله في معرفة المصالح والمفاسد‏.‏

المسألة الثالثة‏:‏ في بيان البلوغ وذلك بأربعة أشياء اثنان يشترك فيهما الرجال والنساء‏.‏ واثنان يختصان بالنساء أما اللذان يشترك فيهما الرجال والنساء فأحدهما بالسن فإذا استكمل المولود خمس عشرة سنة‏.‏ حكم ببلوغه غلاماً كان أو جارية‏.‏ ويدل عليه ما روى عن ابن عمر قال‏:‏ عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني‏.‏ ثم عرضت عليه عام الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني‏.‏ أخرجاه في الصحيحين وهذا قول أكثر أهل العلم‏.‏

وقال أبو حنيفة بلوغ الجارية باستكمال سبع عشرة وبلوغ الغلام باستكمال ثماني عشرة سنة والثاني الاحتلام وهو إنزال المني الدافق سوا أنزل باحتلام أو جماع فإذا وجد ذلك من الصبي أو الجارية حكم ببلوغه لقوله تعالى ‏{‏وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم‏}‏ ولقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ‏:‏ «خذ من كل حالم ديناراً أما نبات الشعر الخشن حول الفرج فهو يدل على البلوغ» في أولاد المشركين لما روى عن عطية القرظي قال‏:‏ كنت من سبي قريظة فكانوا ينظرون فمن أنبت الشعر قتل ومن لم ينبت لم يقتل‏.‏ فكنت ممن لم ينبت وهل يكون ذلك علامة عن البلوغ في أولاد المسلمين‏؟‏ فيه قولان‏:‏ أحدهما أنه يكون بلوغاً كما في أولاد المشركين والثاني لا يكون ذلك بلوغاً في حق أولاد المسلمين لأنه يمكن الوقوف على مواليد أولاد المسلمين والرجوع إلى قول آبائهم بخلاف الكفار فإنه لا يوقف على مواليدهم ولا يقبل في ذلك قول آبائهم لكفرهم فجعل الإنبات الذي هو أمارة البلوغ بلوغاً في حقهم‏.‏ وأما الذي يختص بالنساء فهو الحيض والحبل فإذا حاضت الجارية بعد استكمال تسع سنين حكم ببلوعها وكذلك إذا ولدت حكم ببلوغها قبل الوضع بستة أشهر لأنها أقل مدة الحمل‏.‏

المسألة الرابعة‏:‏ في بيان الرشد وهو أن يكون مصلحاً في دينه وماله فالصلاح في الدين هو اجتناب الفواحش والمعاصي التي تسقط بها العدالة والصلاح في المال هو أن لا يكو مبذراً والتبذير أن ينفق ماله فيما لا يكون فيه محمدة دنيوية ولا مثوبة أخروية أو لا يحسن التصرف فيغبن في البيع والشراء‏.‏ فإذا بلغ الصبي وهو مفسد لماله ودينه لم ينفك عنه الحجر ولا ينفذ تصرفه في ماله‏.‏ وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة إذا كان مصلحاً لماله زال عنه الحجر وإن كان مفسداً لدينه وإذا كان لما له مفسداً لا يدفع إليه المال حتى يبلغ خمسة وعشرين سنة غير أنه ينفذ تصرفه قبله والقرآن حجة الشافعي في استدامة الحجر عليه لأن الله تعالى قال ‏{‏فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم‏}‏ أمر بدفع المال بعد البلوغ وإيناس الرشد والفاسق لا يكون رشيداً وبعد بلوغه خمساً وعشرين سنة وهو مفسد لماله بالإنفاق غير رشيد فوجب أن لا يجوز دفع المال إليه كما قبل بلوغ هذا السن‏.‏

المسألة الخامسة‏:‏ إذا بلغ الصبي أو الجارية وأونس منه الرشد زال عنه الحجر ودفع إليه ماله سواء تزوج أو لم يتزوج وقال مالك إن كانت امرأة لا يدفع إليها المال ما لم تتزوج دفع إليها مالها ولا ينفذ تصرفها إلا بإذن الزوج ما لم تكبر وتجرب‏.‏

المسألة السادسة‏:‏ إذا بلغ الصبي رشيداً زال عنه الحجر فلو عاد سفيهاً ينظر فإن كان مبذراً لماله حجر عليه وإن كان مفسداً في دينه فعلى وجهين‏:‏ إحدهما أن يعاد عليه الحجر كما يستدام إذا بلغ وهو بهذه الصفة‏.‏

والثاني لا يحجر عليه لأن حكم الدوام أقوى من حكم الابتداء‏.‏ وعند أبي حنيفة لا حجر على الحر العاقل البالغ بحال والدليل على إثبات الحجر من اتفاق الصحابة ما روي عن هشام بن عروة عن أبيه أن عبدالله بن جعفر ابتاع أرضاً سبخة بستين ألف درهم فقال علي‏:‏ لآتين عثمان ولأحجرن عليك فأتى ابن جعفر الزبير فأعلمه بذلك فقال الزبير أنا شريكك في بيعك فأتى علي عثمان فقال احجر على هذا فقال الزبير أنا شريكه فقال عثمان كيف أحجر على رجل في بيع شريكه فيه الزبير فكان اتفاقاً منهم على جواز الحجر حتى حتى احتال الزبير لدفعه وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوها إسرافاً‏}‏ الخطاب للأولياء يعني يا معشر الأولياء لا تأكلوا أموال اليتامى بغير حق ‏{‏وبداراً أن يكبروا‏}‏ يعني لا تبادروا كبرهم ورشدهم فتفرطوا في إنفاقها وتقولون ننفق كما نشتهي قبل أن يكبروا فيلزمكم تسليمها إليهم‏.‏ ثم بيّن تعالى حال الأولياء وقسمهم قسمين فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن كان غنياً فليستعفف‏}‏ أي فليمتنع من أكل مال اليتيم ولا يرزأه قليلاً ولا كثيراً ‏{‏ومن كان فقيراً‏}‏ يعني محتاجاً إلى مال اليتيم وهو يحفظه ‏{‏فليأكل بالمعروف‏}‏ روى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «إني فقير وليس لي ولي يتيم فقال كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل» واختلف العلماء في حكم هذه الاية فروي عن عمر وان عباس وابن جبير وأبي العالية وعبيدة السلماني وأبي وائل ومجاهد ومقاتل أنه يأخذ من مال اليتيم على وجه القرض‏.‏ واختلفوا في أنه هل يلزمه القضاء فذهب قوم إلى أن يلزمه القضاء إذا أيسر وهو المراد من قوله تعالى فليأكل بالمعروف والمعروف القرض أي يستقرض من مال اليتيم إذا احتاج إليه، فإذا أيسر قضاه وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير قال عمر بن الخطاب‏:‏ إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة مال اليتيم إن استغنيت استعففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف فإذا أيسرت قضيت‏.‏ وقال قوم لا ضمان عليه ولا قضاء بل يكون ما يأكله كالأجرة له على عمله وهو قول الحسن والشعبي والنخعي وقتادة قال الشعبي لا يأكله إلا أن يضطر إليه كما يضطر إلى الميتة ثم القائلون بجواز الأكل من مال اليتيم اختلفوا في قوله فليأكل بالمعروف‏.‏ فقال عطاء وعكرمة يأكل بأطراف أصابعه ولا يسرف ولا يكتسي منه ولا يلبس الكتان ولا الحلل لكن يأكل ما يسد به الجوع ويلبس ما يستر به العورة‏.‏ وقال الحسن يأكل من تمر نخلة ولبن مواشيه بالمعروف ولا قضاء عليه فأما الذهب الفضة فلا يأخذ منه شيئاً فإن أخذ وجب عليه رده‏.‏

وقال الكلبي المعروف هو ركوب الدابة وخدمة الخادم، وليس له أن يأكل من ماله شيئاً وروي أن رجلاً قال لابن عباس إن لي يتيماً وإن له إبلاً أفأشرب من لبن إبله فقال ابن عباس إن كنت تبغي ضالة إبل وتهنأ جرباها وتليط حوضها وتسقيها يوم ورودها فاشرب غير مضر نسل ولا ناهك في الحلب وقال قوم المعروف أن يأخذ من ماله بقدر قيامه وأجره عمله ولا قضاء عليه وهو قول عائشة وجماعة من أهل العلم وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم‏}‏ هذا أمر إرشاد وليس بواجب أمر الله تعالى الولي بالإشهاد على دفع المال إلى اليتيم بعد البلوغ لتزول عنه التهمة وتنقطع الخصوصة لأنه إذا كانت عليه بينة كان أبعد من أن يدعى عدم القبض وتظهر بذلك أمانة الوصي وتسقط عنه اليمين عند أنكار اليتيم القبض ‏{‏وكفى بالله حسيباً‏}‏ يعني محاسباً ومجازياً وشاهداً به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ‏(‏7‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون‏}‏ نزلت هذه الآية في أوس بن ثابت الأنصاري توفي وترك امرأته ويقال لها أم كحة وثلاث بنات منها فقام رجلان هما ابن عم الميت ووصياه يقال لهما سويد وعرفجة فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئاً من ماله‏.‏ وذلك أنهم كانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغير من الذكور وإنما يورثون الرجال يقولون لا يعطى الإرث إلاّ من قاتل وحاز الغنيمة وحمى الحوزة فجاءت أم كحة امرأة أوس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ يا رسول الله مات أوس بن ثابت وترك ثلاثة بنات وأنا امرأته وليس عندي ما أنفق عليهن وقد ترك أبوهن مالاً حسناً وهو عند سويد وعرفجة ولم يعطياني ولا بناته منه شيئاً وهن في حجري ولا يطعمن ولا يسقين فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا‏:‏ يا رسول الله إن ولدها لا يركبن فرساً ولا يحملن كلأ ولا ينكبن عدواً فأنزل الله هذه الآية وبين أن الإرث ليس مختصاً بالرجال بل هو أمر يشترك فيه الرجال والنساء‏.‏ فقال تعالى للرجال يعني الذكور من أولاد الميت وعصبته نصيب أي حظ مما تترك الوالدن والأقربون يعني من لميراث ‏{‏وللنساء نصيب‏}‏ يعني وللإناث من أولاد الميت حظ ‏{‏مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر‏}‏ يعني من المال المخلف عن الميت ‏{‏نصيباً مفروضاً‏}‏ يعني معلوماً والفرض ما فرضه الله تعالى وهو آكد من الواجب فلما نزلت هذه الآية مجملة ولم يبين كم هو النصيب أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سويد وعرفجة لا تفرقا من المال شيئاً فإن الله تعالى قد جعل لبناته نصيباً مما ترك ولم يبين من هو حتى أنظر فيهن فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏يوصيكم الله في أولادكم‏}‏ الآية فلما نزلت أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سويد وعرفجة أن ادفعا ألى أم كحة الثمن مما ترك وإلى بناته الثلثين ولكما باقي المال‏.‏